Blind Date هذه الموضة التي اجتاحتنا دون إستئذان دعني أروي لك، في أحد أيام الشتاء الباردة في عمّان، كنت جالسًا في مقهى صغير، أحتسي كوبًا من القهوة، عندما تلقيت رسالة على هاتفي من صديقتي المقربة، تقول فيها:
“عايزة أحكيلك على أغرب Blind Date في حياتي…”
كان هذا الحديث بداية القصة التي جعلتني أغوص في هذا الموضوع. صديقتي “ميس” قررت بعد سنوات من الصمت الاجتماعي أن تكسر الروتين، فقررت أن تشارك في تجربة “المواعدة الرقمية“.
كانت تظن أن الأمر مجرد تسلية، أو ربما وسيلة لملء الفراغ العاطفي، لكن عندما التقت بالشاب الذي تعرفت عليه عبر أحد التطبيقات الشهيرة، كان اللقاء غير متوقع بشكل كلي.
حكاية البداية… لماذا كتبنا هذا المقال؟
كانت لحظة صادمة، حيث اكتشفت في اللقاء الأول أنه يعمل مع والدها في نفس المكتب منذ سنوات، وأنه كان يتظاهر بشخصية تختلف تمامًا عن التي أظهرها عبر الشاشات”Blind Date”.
رغم أن القصة انتهت بنجاح، إلا أنها دفعتني للتفكير: هل باتت تطبيقات المواعدة جزءًا أساسيًا من الحياة العاطفية للشباب العربي؟ وهل نحن في حاجة إلى هذا النوع من التواصل؟
من رسائل البريد إلى السوايب — كيف بدأ كل شيء؟
هل تذكرون الأيام الخوالي عندما كان الحب يبدأ برسالة مكتوبة بخط اليد، تُرسل عبر البريد التقليدي؟ تلك كانت بداية التعارف بين الناس، حيث كانت العلاقات تتشكل ببطء وتستمر لفترة أطول.
لكن مع دخول الإنترنت في التسعينيات، بدأنا نشهد تحولات دراماتيكية في طريقة تواصلنا. أصبح التواصل بين الأشخاص يحدث في عالمٍ افتراضي بعيدًا عن الأنظار.
ظهرت أولى مواقع الدردشة في البداية، مثل Yahoo Messenger، وبعدها بدأت مواقع مثل “ArabMatchmaking” و”Muslima” تأخذ دورًا رئيسيًا في جمع الناس معًا.
لكننا الآن في عصر مختلف تمامًا
مع ظهور الهواتف الذكية، اختفى تقريبًا البريد الإلكتروني التقليدي واستبدل بالعديد من التطبيقات الذكية التي تقدّم لنا فرصة التعارف في لحظات قليلة. تطبيق Tinder كان بداية جديدة في هذا المجال في 2012، مع تقديم فكرة السوايب، حيث أصبح بإمكان المستخدمين تقييم الشركاء المحتملين بنقرة بسيطة.
تبع هذا التطبيق ظهور تطبيقات مشابهة تستهدف سوق الشباب العربي بشكل خاص مثل Hawaya في مصر وMuzmatch الموجه للمسلمين في جميع أنحاء العالم.
لكن مع ازدياد عدد هذه التطبيقات، يطرح السؤال: هل أصبحنا نعتمد بشكل كبير على هذه الوسائل الحديثة Blind Date في بناء علاقاتنا العاطفية؟ وما هي تأثيراتها الحقيقية على المجتمع العربي؟
لماذا نلجأ إلى التطبيقات؟ Blind Date ودوافع عربية خالصة
العلاقات التقليدية في العالم العربي كانت دائمًا تتسم بالبطء، حيث كان الزواج يتم بتوجيه الأهل أو من خلال علاقات تجارية، اجتماعية، أو عائلية. لكن مع تطور الحياة في المدن الكبرى وضغط العمل، بدأ الشباب في البحث عن حلول أسرع وأكثر مرونة لتلبية حاجاتهم العاطفية.
كانت العادات الاجتماعية في بعض الأماكن تقيد هؤلاء الشباب في دائرة ضيقة تجعل البحث عن شريك حياة أمرًا معقدًا.
“رانيا“، فتاة مصرية في سن 29، عبرت عن هذا الشعور عندما قالت:
“أنا بنت عندي 29 سنة، وكلما تكلمت مع الناس حولي عن فكرة الزواج، كان الجميع يتساءل: متى هتتجوزي؟ ولكن المشكلة كانت أنني لم أكن أجد الشخص المناسب في دائرتي الضيقة. ومع مرور الوقت، بدأت أشعر أن تطبيقات المواعدة قد تكون فرصة لتغيير هذا الوضع”.
من جهته، يقول “ياسر”، الشاب المغربي الذي يعمل مهندسًا، إن استخدام التطبيقات كان وسيلة فعالة له للتعارف على أشخاص جدد.
“في البداية، كنت أخشى الدخول في هذا العالم، لكنني اكتشفت أنه يوفر لي مساحة أكبر للتعرف على الشريك المناسب بطريقة أكثر أريحية. أصبحت قادرًا على التعبير عن نفسي بشكل أفضل دون القيود التقليدية”.
إذن لماذا لجأ العرب إلى هذه التطبيقات؟ الجواب ببساطة هو أن البيئة الاجتماعية قد تغيرت بشكل كبير، وهو ما دفع الأفراد إلى البحث عن حلول تواكب العصر وتناسب حاجاتهم. وأصبح من السهل الآن أن تجد الشخص الذي يشاركه اهتماماتك وتطلعاتك، حتى لو لم تكن تعرفه في البداية.
قصص من القلب — الواقع أغرب من الخيال

القصة الأولى: ندى ومحمد — لقاء العمر أم وهم مؤلم؟
في يوم من الأيام، جلست مع صديقتي ندى، التي شاركتني قصة حدثت لها مؤخرًا. ندى كانت قد قررت الانضمام إلى تطبيق مواعدة في إسطنبول بعد أن شعرت بالملل من حياتها العاطفية.
كان التطبيق يُعد وسيلة مبتكرة في البداية للتعرف على شخص ما بشكل غير تقليدي. وبعد عدة أسابيع من المحادثات الممتعة، قررت أن تلتقي بشاب يُدعى محمد.
لكن عندما التقت به في أحد المقاهي، شعرت بشيء غير مريح. تبين أن محمد كان في الواقع يعمل مع والدها في نفس المكتب منذ عدة سنوات، لكن كانت شخصيته مختلفة تمامًا عما كانت تظهره في المحادثات. هذا اللقاء الغريب أتاح لها فرصة لاكتشاف الحيلة التي كان يمارسها عليها، حيث اكتشفت أنه كان يتهرب من مسؤولياته في حياته العاطفية.
“الموقف كان محرجًا جدًا بالنسبة لي. شعرت أنني كنت ضحية لمجرد لعبة عاطفية، لكنه علمني درسًا مهمًا: أن الثقة هي أساس أي علاقة حقيقية”، تقول ندى.
الصة الثانية: سامي وسارة — من Blind Date إلى عقد القران
لكن ليس كل التجارب كانت مؤلمة. في أبوظبي، التقى سامي وسارة عبر تطبيق مواعدة خاص بالمسلمين. بعد عدة محادثات وتبادل الأفكار حول حياتهما وطموحاتهما، قررا اللقاء في فعالية ثقافية عامة. كان اللقاء الأول بمثابة إشراقة جديدة. تفاعلوا بشكل طبيعي وكان هناك انسجام غير متوقع.يقول سامي، الذي تزوج سارة بعد عام كامل من التعارف.
“أنا شخص لا أؤمن بأن العلاقة تبدأ من خلال طريقة تقليدية، ولكن في النهاية، الحب هو التفاهم، والاحترام المتبادل”
هل التطبيقات تساعد في بناء علاقات دائمة أم مجرد إضاعة للوقت؟
عندما ننظر إلى الفكرة، قد يعتقد البعض أنها مجرد وسيلة للترفيه أو للبحث عن علاقات عابرة. لكن الحقيقة أن هذه التطبيقات قد أثبتت أنها أداة فعالة لبناء علاقات دائمة في بعض الحالات، بينما في حالات أخرى، قد تكون مجرد وقت ضائع.
شخصيات اجتماعية مثل “فاطمة” – وهي فتاة مغربية تبلغ من العمر 31 عامًا – ترى أن هذه التطبيقات لا تُمثل بالنسبة لها مجرد أداة تعارف. فبعد تجربة طويلة مع المواعدة الرقمية، تمكنت من العثور على شخص يعبر عن تطلعاتها، تقول فاطمة.
“أصبح من الطبيعي أن ألتقي بأشخاص يشبهونني في اهتماماتهم وأفكارهم. هذا ساعدني في تحديد شريك الحياة الذي أحتاجه”
لكن السؤال الذي يبقى قائمًا: هل يعكس هذا مجرد حالة نادرة؟ أم أن هناك شخصيات تُظهر في البداية نفسها بشكل جذاب فقط للانخداع في النهاية؟ قد تكون التطبيقات، في بعض الحالات، مجرد أداة لتمضية الوقت مع أشخاص لا يملكون الاستعداد الكافي للارتباط الجاد.
في المقابل، “أحمد” (شاب سعودي في أواخر العشرينات) يعتقد أن التطبيقات قد تكون فخًا في بعض الأحيان. يقول أحمد:
“وجدت نفسي أعود دائمًا إلى نفس النقطة: الندم. التحدث مع شخص ثم اكتشاف أنه لا يتوافق معك في الحياة الواقعية، وأن الكيمياء التي كانت موجودة عبر المحادثات مجرد وهم. أحيانًا يكون لدى الناس توقعات مفرطة، مما يجعل من الصعب إيجاد علاقة حقيقية”.
هذه الآراء المتناقضة تشير إلى أن المواعدة الرقمية قد تُنجح في بعض الأحيان، لكنها لا تضمن بالضرورة بناء علاقة دائمة. فبعض الناس ينجذبون لفكرة المواعدة كوسيلة للهروب من الواقع، أو البحث عن “شريك مثالي“، مما يؤدي في النهاية إلى خيبة الأمل.
المواعدة الرقمية: تفاعل أم قيد؟ كيف تؤثر التطبيقات على العلاقات الاجتماعية؟
“من خلال المراسلة النصية عبر التطبيقات، قد يكون لدينا فرصة لإظهار أنفسنا بطريقة مثالية”
– هذه الجملة قالها “عادل” (شاب لبناني). لكن هل هذا هو الواقع؟ وهل هذا التحول في طريقة التواصل يعكس الحقيقة؟
البعض يعتقد أن هذا النوع من التواصل يُضعف القدرة على بناء علاقات حقيقية. فمع تحول أغلب المحادثات إلى شاشة الهاتف، تضيع العديد من تفاصيل التفاعل الشخصي، مثل لغة الجسد والنبرة في الصوت، التي هي في غاية الأهمية في التواصل الإنساني.
لعل هذه النقطة هي ما جعلت البعض يعبّر عن شعوره بفقدان “الحياة الواقعية” في عالم متشابك من الشاشات.
ماذا عن الأثر النفسي لهذه التطبيقات؟
هناك دراسات تظهر أن بعض المستخدمين يعانون من قلق الأداء أثناء المراسلات عبر التطبيقات، خاصة في بداية التعارف. ينتابهم شعور من عدم التقدير للذات عندما لا يتلقون ردودًا فورية، مما يؤثر على حالتهم النفسية.
“ليلى”، وهي فتاة جزائرية تعمل في مجال العلاقات العامة، تقول:
“في البداية كنت أعتقد أن المواعدة عبر الإنترنت هي مجرد حل للمشكلة الاجتماعية. ولكن مع مرور الوقت، اكتشفت أنني لا أستطيع بناء علاقة حقيقية فقط من خلال الرسائل المكتوبة. افتقدت القدرة على النظر في عيون الأشخاص، والحديث مع هؤلاء بشكل طبيعي. بدلاً من ذلك، أصبح التواصل باردًا.”
دعونا نتحدث عن التأثيرات الثقافية والاجتماعية في العالم العربي
مع أن التطبيقات التكنولوجية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إلا أن المجتمع العربي يظل مليئًا بالتحديات الاجتماعية التي تؤثر بشكل كبير على كيفية استخدام هذه التطبيقات. في معظم الثقافات العربية، مفهوم العلاقة العاطفية لا يزال يتأثر بشكل كبير بالعادات والتقاليد، ما يضع حدودًا معينة أمام الأفراد الذين يسعون لاستخدام التطبيقات للبحث عن شريك حياتهم.
على سبيل المثال، في المجتمع السعودي، يعتبر الزواج في الغالب بمثابة اتفاق رسمي بين الأسر، ويعتمد على موافقة الأهل.
لذا، بالنسبة للكثيرين، قد تكون فكرة التعارف عبر هذه التطبيقات شيئًا غريبًا، إن لم يكن محرمًا اجتماعيًا في بعض الحالات. لكن مع مرور الوقت، بدأ الشباب السعودي ينظرون إلى هذه التطبيقات كوسيلة للكسر من هذا التقليد الاجتماعي، ومحاولة للوصول إلى حياة عاطفية أكثر حرية.
“مريم”، التي تعيش في دبي، تحدثت عن تجربتها مع تطبيقات المواعدة قائلة:
“في مجتمعنا، لا يُسمح بالكثير من العلاقات العاطفية إلا إذا كانت ضمن إطار الزواج. لذا، لجأت لاستخدام التطبيقات للبحث عن شريك حياتي، ولكن مع مرور الوقت بدأت أشعر بالقلق لأنني كنت أخشى من حكم الناس عليّ. في النهاية، أدركت أنه إذا كانت العلاقة جادة، فلا يجب أن نهتم بالتقاليد بقدر ما نهتم بالمشاعر الحقيقية”.





