هناك وجوه لا تحتاج إلى مقدمة، وحضور لا يُنسى حتى وإن مرّ في صمت. لطفي لبيب هو أحد هؤلاء الذين دخلوا قلوب المصريين والعرب دون ضجيج، وبقوا فيها كأنهم جزء من العائلة… الأب، العم، الموظف الطيب، العسكري الصارم، أو حتى الرجل البسيط في شباك التذاكر.
فنان من طراز نادر، لم يكن يسعى للبطولة، لكنه كان دومًا البطل الصامت في خلفية المشهد. واليوم، نودّعه بنفس الهدوء الذي أحببناه فيه.
بدايات مختلفة.. وتأخير مقصود؟
ولد لطفي لبيب في 18 أغسطس 1947 بمحافظة بني سويف. لم تكن طريقه نحو الفن مفروشة بالورود، بل كانت مليئة بالتحولات. درس الفلسفة أولًا، ثم التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية. وبينهما، خاض تجربة غيّرت حياته: المشاركة في حرب أكتوبر كجندي، لا كممثل في عمل وطني. هناك، على الجبهة، صقلت الحياة ملامحه، ومنحته ذلك العمق الذي سيظهر لاحقًا في أدائه.
لم يبدأ لطفي التمثيل بشكل مكثّف إلا في منتصف الثمانينيات. كان قد جاوز الأربعين، لكن حضوره كان جديدًا، طازجًا، ومختلفًا. وكأن الوقت قرر أن ينتظره حتى ينضج تمامًا.
الوجه المألوف على الشاشة
في كل بيت مصري تقريبًا، هناك ذكرى مرتبطة بلطفي لبيب:
– “مش هو اللي كان في السفارة في العمارة؟”
– “آه، وطلع في عسل أسود كمان، كان الموظف بتاع الورق اللي ما بيخلصش!”
– “ده كان بيضحكني من غير ما يقول حاجة!”
هكذا يُستقبل اسمه، ببساطة المحبّين.
في أفلام مثل السفارة في العمارة، كده رضا، 1000 مبروك، وعسل أسود، لم يكن لطفي مجرد مكمل للصورة. بل كان عنصرًا أساسيًا في خلق التوازن، في منح البطل لحظة إنسانية، أو تقديم كوميديا خفيفة الظل لا تُنسى.
أداؤه لا يعتمد على الصراخ أو المبالغة. يكفي أن يرفع حاجبه، أو يغيّر نبرة صوته، لتفهم كل ما يريد قوله. كأن التمثيل لديه أشبه بحكمة: قليل من الحركة، كثير من المعنى.
لطفي لبيب:السفارة في العمارة نقطة تحول في مشواره
كيف ضاعف “السفير الإسرائيلي” أجري؟
في أحد لقاءاته النادرة، كشف الفنان الراحل لطفي لبيب كواليس طريفة ومفاجئة عن دوره الشهير في فيلم السفارة في العمارة (2005)، حيث قدّم شخصية “السفير الإسرائيلي” بطريقة ساخرة وبسيطة، جعلت الشخصية رغم رمزيتها السياسية، محبوبة على نحو غير متوقع.
قال لبيب، بابتسامته المعهودة:
“كنت طالع في مشاهد معدودة، لكن بعد العرض، الدنيا اتقلبت! الشخصية علّمت مع الناس جدًا… واتفاجئت إن المنتج بعد كده ضاعف أجري في الأعمال اللي بعدها من غير ما أطلب.”
وأضاف ممازحًا:
“أنا طلعت السفير الإسرائيلي الوحيد اللي الناس حبّته!”
ما حدث بعد ذلك كان نقطة تحول في مشواره. لم يكن الدور بطولة، لكنه أثبت أن التأثير لا يُقاس بعدد المشاهد، بل بصدق الأداء، وتوقيت الحضور. وقد صار لطفي لبيب بعدها واحدًا من أكثر الممثلين طلبًا في الكوميديا السينمائية.
تلك اللحظة، كما روى، جعلته يؤمن بأن “كل مشهد فرصة… وكل كلمة ممكن تبنيك أو تنساك”، وهي القاعدة التي سار بها في بقية مسيرته، حتى آخر مشهد.
رجل المسرح والدراما
بعيدًا عن السينما، كان لطفي لبيب نجمًا في التلفزيون والمسرح. مسلسلات مثل الراجل أهو والبيت الكبير، كانت شهادة على تنوّعه، وقدرته على الانتقال من مشهد درامي ثقيل إلى مشهد خفيف الدم دون أن تفقد الشخصية مصداقيتها.
أما في المسرح، فكان يحمل احترامًا عميقًا للخشبة. كان يرى أن المسرح ليس فقط تدريبًا على الأداء، بل تجربة روحية وجماعية تُعيد للفنان صلته بالجمهور الحيّ.
المرض والاعتزال.. وصوت العقل
في السنوات الأخيرة، ابتعد لطفي لبيب عن الأضواء. أعلن بنفسه، بصوته الهادئ المعتاد، أنه لم يعد قادرًا على الوقوف أمام الكاميرا بسبب إصابته بجلطة أثرت على حركته. لم يُرد أن يظهر بشكل لا يُرضيه أو يُخيّب ظن من أحبوه.
“أنا فنان بيحترم شغله، وبيحترم جمهوره. مش هشتغل وأنا نصّ فنان”، قالها بصراحة مؤثرة، جعلت جمهوره يحترمه أكثر مما سبق.
كاتب وجندي… قبل أن يكون ممثلًا
بعيدًا عن الفن، لطفي لبيب كان صاحب قلم. كتب كتابًا بعنوان الكتيبة 26، حكى فيه عن تجربته الحقيقية في حرب أكتوبر. لا مبالغة، لا بطولات زائفة، فقط مشاهد يومية لجندي عادي، يعيش الخوف والبطولة جنبًا إلى جنب.
هذا الجانب من شخصيته لم يكن معروفًا للجميع، لكنه كشف عن عقل مفكر، وروح تبحث عن المعنى، حتى في أكثر اللحظات قسوة.
وداعًا يا لطفي.. الهادئ دائمًا
في 30 يوليو 2025، رحل لطفي لبيب بهدوء يشبهه.
لم يكن خبر وفاته صادمًا، بقدر ما كان موجعًا. كأنك تودّع قريبًا عزيزًا، تعرفت عليه عبر عشرات الشخصيات، لكنك أحببته كإنسان، قبل أن يكون فنانًا.
نعاه فنانون كبار بكلمات مؤثرة، لكن أكثر ما لامس القلوب كانت رسائل الناس البسطاء:
– “ده كان وشه بيدّيني طمأنينة”.
– “ابني بيحبّه من كتر ما ضحكه وهو صغير”.
– “ممثل محترم، بجد”.
إرث من الحب
لطفي لبيب لم يترك فقط أعمالًا فنية، بل ترك إرثًا من الاحترام، من التواضع، من الحضور الإنساني النقي. في زمن تعلو فيه الأصوات بحثًا عن الشهرة، كان هو هادئًا، واضحًا، صادقًا. ولذلك، بقى.
سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الفن المصري كأحد أعمدة الأداء الصادق. ممثل عاش حياة كاملة، بسيطة، لكنها مفعمة بالتأثير.
✍️ تم تحرير هذا المقال وصياغته بإبداع من فريق جورنال العرب 2025، حيث تم تزويده بأحدث المعلومات وأعمق التحليلات.