من سينما يوسف شاهين إلى دراما رمضان
من سينما يوسف شاهين إلى دراما رمضان

من سينما يوسف شاهين إلى دراما رمضان

1 دقيقة


من إلى – حين كانت الصورة تتكلم – … “ما بين نظرات سعاد حسني تحت ضوء يوسف شاهين، وصراخ بطلة مسلسل في رمضان، ضاعت لغة كانت تنطق بالصورة.” الفن المرئي لم يكن يومًا مجرد صوت أو حركة، بل كان قبل أي شيء صورة.

وفي مصر، حيث اختلطت الروح الشرقية بالسينما العالمية، تشكّلت لغة بصرية فريدة، وأفكار عميقة، ورؤى فلسفية نضجت مع مخرجين كبار مثل يوسف شاهين، وبدأت تبهت شيئًا فشيئًا مع دخولنا زمن دراما رمضان. فهل تطورت الصورة في الفن المصري؟ أم فقدت معناها وسط السباق التجاري والصوت العالي؟

في كل لحظة من لحظات الفن المصري، كانت الصورة تتحدث قبل أن تُقال الكلمة. منذ عهد يوسف شاهين، كانت الكاميرا التي كانت تلتقط اللحظات الإنسانية عنصرًا رئيسيًا في نقل مشاعر معقدة، . لكن في الوقت الحالي، يبدو أن اللغة البصرية في السينما والدراما المصرية قد شهدت تحولات كبيرة. فهل تطورت اللغة البصرية في الفن المصري؟ أم أن تطور التكنولوجيا والتقنيات الحديثة جعلها تبدو أكثر سطحية؟

في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذه المسألة، مستعرضين السينما المصرية في فترة يوسف شاهين، ومقارنينها مع الدراما الرمضانية الحديثة، لنتساءل: هل فقدت الصورة معناها في هذا الزمن؟ وهل لا يزال للغة البصرية مكان في الفن المصري؟

هذا المقال رحلة في عمق الصورة المصرية، من زمن كانت فيه الكاميرا شاعرة، إلى زمن أصبحت فيه مؤثرات بصرية بلا روح. سنقارن، وسنحلل، وسنسأل: هل الصورة اليوم تقول أكثر مما تُقال؟ أم العكس؟


زمن يوسف شاهين واللغة البصرية الأصيلة

يوسف شاهين، لم يكن فقط مخرجًا، بل كان شاعرًا بصريًا. الصورة عنده لم تكن ترفًا تقنيًا، بل أداة مقاومة وتحرر وتفكيك. لم يكن مهتمًا بأن “تُفهم” الصورة بقدر ما كان يريدك أن “تشعر بها”.

إذا كنت ترغب في فهم اللغة البصرية الحقيقية، لا بد لك من العودة إلى يوسف شاهين. هذا المخرج الذي تجاوز حدود السينما في عصره وفتح أبوابًا جديدة للفن المصري.

1. الصورة كرمز

لم يكن يوسف شاهين فقط مخرجًا، بل كان فنانًا بصريًا استخدم اللغة البصرية لتقديم رسائل عميقة. في فيلمه “باب الحديد” (1958)، استخدم الزاوية المائلة ليتماشى مع حالة البطل قناوي الذي يعاني من الوحدة الداخلية، بالإضافة إلى الإضاءة الحادة التي تسلط الضوء على مشاعر التوتر والانعزال. هذه المشاهد تجعلك تشعر بما يشعره، دون الحاجة إلى كلمات إضافية.

لم يكن يوسف شاهين فقط مخرجًا، بل كان فنانًا بصريًا

لم يكن يوسف شاهين فقط مخرجًا، بل كان فنانًا بصريًا
لم يكن يوسف شاهين فقط مخرجًا، بل كان فنانًا بصريًا
2. اللقطة الطويلة كبيان سياسي

في “العصفور” (1972)، كان شاهين يستخدم اللقطات الطويلة في فيلمه ليُظهر الانهيار السياسي والإنساني الذي عاشته البلاد بعد نكسة 1967. كان يرفض القطع السريع للكاميرا، مفضلًا الحفاظ على الإيقاع البطيء الذي يسمح للمشاهد بالتفكير العميق والتفاعل مع الأحداث.

3. التكوين الصوري

في فيلمه الشهير “إسكندرية ليه؟” (1979)، كانت الكاميرا هي من تتحدث، حيث كانت الكادرات تعكس صراع الهوية بين الشرق والغرب. كان السيناريو في بعض الأحيان أقل أهمية من الصورة، التي كانت تتكلم مباشرة عن التوترات الثقافية والاجتماعية في مصر آنذاك.

4. اللون كأداة درامية

في أفلام يوسف شاهين، كانت الألوان جزءًا لا يتجزأ من السرد. كان اللون الأحمر في مشاهد الغضب، والأزرق في لحظات الانكسار، والأبيض في مشاهد السلام أو المواجهة مع الذات. كانت الألوان تعبيرًا عن الحالة النفسية أكثر من كونها مجرد جمالية بصرية.

في زمنٍ ليس ببعيد، كانت السينما المصرية تُنحت بالكاميرا، وتُبنى بالكادرات، وتُضاء بالبصيرة لا بالإضاءة فقط. كان يوسف شاهين، المخرج الذي يُعدّ علامة فارقة في تاريخ السينما العربية، يستخدم الكادر كأنّه بيت شعر، والعدسة كأنها ريشة شاعر بصري. لكن، أين نحن الآن من هذا الحس البصري؟ وهل لا تزال الشاشة الصغيرة تحفظ شيئًا من ذلك المجد الفني؟

في زمنٍ ليس ببعيد، كانت السينما المصرية تُنحت بالكاميرا، وتُبنى بالكادرات، وتُضاء بالبصيرة لا بالإضاءة فقط. كان يوسف شاهين، المخرج الذي يُعدّ علامة فارقة في تاريخ السينما العربية، يستخدم الكادر كأنّه بيت شعر، والعدسة كأنها ريشة شاعر بصري. لكن، أين نحن الآن من هذا الحس البصري؟ وهل لا تزال الشاشة الصغيرة تحفظ شيئًا من ذلك المجد الفني؟


لغة بصرية… كانت تُحدث ثورة

يوسف شاهين لم يكن مجرد صانع أفلام، بل كان لغويًا بصريًا، يبني المعنى من خلال الصورة قبل الكلمة. كان يُجنّد الزوايا المائلة لتعكس اضطراب النفس، ويُسخر الإضاءة والظل لرسم حالة الصراع الداخلي، ويُحرّك الكاميرا كأنها عينٌ تبحث عن الحقيقة.

في فيلم “الاختيار” مثلًا، يتحول الضوء إلى سلاح يكشف المستور، وتصبح زوايا التصوير انعكاسًا لثقل الذنب داخل النفس البشرية. كانت الصورة في أفلامه أكثر بلاغة من أي حوار، وأكثر عُمقًا من أي سرد.

🎬 أعمال مرجعية مهمة:

  • فيلم “باب الحديد” (1958) – إخراج: يوسف شاهين.
  • فيلم “الاختيار” (1970) – رؤية فلسفية عميقة بالصورة.

من الشاشة الفضية إلى الشاشة الرمضانية

عندما نقارن هذا الإرث البصري بما يُقدم اليوم في دراما رمضان، نلاحظ فجوة ضخمة — ليست فقط في الشكل بل في الروح أيضًا. صحيح أن هناك تطورًا في جودة الكاميرات، لكن غابت الرؤية. أصبحت اللقطة تُستخدم لعرض الملابس أو توصيل عدد أكبر من المشاهد، لا لبناء دلالة.

في كثير من المسلسلات الرمضانية، نجد لقطات ثابتة، إضاءة مسطحة، وزوايا مكررة. بينما يُفترض أن كل كادر يجب أن يُسهم في بناء المعنى، نجد أن الكادر نفسه أصبح غائبًا عن اللغة البصرية.


هناك استثناءات… لكنها محدودة

رغم هذا التراجع، هناك تجارب درامية حاولت استعادة الروح البصرية. مسلسل مثل “بـ100 وش” استخدم لغة كاميرا حيوية تُشبه حركية النص، و”لعبة نيوتن” تميّز باستخدام الضوء كعنصر درامي، خاصة في مشاهد الغربة والوحدة.

📺 أمثلة حديثة لدراما ناجحة بصريًا:

  • “لعبة نيوتن” – إخراج تامر محسن (2021).
  • “بـ100 وش” – إخراج كاملة أبو ذكري (2020).

لكن هذه التجارب لا تزال محصورة، وغالبًا ما تُواجه بعقبات الإنتاج السريع، وضغوط الجمهور الباحث عن الإيقاع السريع أكثر من التذوق الفني.


لماذا تراجع الحس البصري؟

  1. السرعة الإنتاجية: أصبحت المسلسلات تُصوّر في وقت قياسي، مما يحدّ من القدرة على تصميم كادر مدروس.
  2. غياب المخرج الفنان: قلّة من المخرجين اليوم يمتلكون ثقافة بصرية واسعة تؤهلهم لصياغة لغة بصرية حقيقية.
  3. سوق تجاري يفرض إيقاعه: الأعمال تُبنى غالبًا على مقاييس تجارية لا جمالية، مما يقتل المغامرة.

هل يمكن للدراما أن تستعيد لغتها البصرية؟

نعم، بشرط أن يعود الفنان ليتصدر المشهد. أن يعود المخرج ليكون صاحب الرؤية لا مجرد منفذ. وأن تعود الصورة لتقول شيئًا، لا أن تكتفي بأن تكون مجرد خلفية.

إن السينما والتلفزيون، في جوهرهما، لغتان بصريتان. وإذا غابت الصورة التي تعني شيئًا، ضاعت الرسالة، مهما كان النص قويًا.

ربما آن الأوان أن نتساءل: هل نحن بحاجة ليوسف شاهين جديد؟ أم أن كل مخرج فينا يحمل “شاهينه” بداخله، وينتظر فقط فرصة ليطلقه؟

 


إلى دراما رمضان واللغة البصرية الحديثة

لا يمكن إنكار أن الإنتاج الدرامي في رمضان شهد تطورًا تقنيًا مذهلًا. كاميرات متطورة، إضاءة احترافية، مونتاج سريع. لكن، هل أصبح هذا على حساب اللغة البصرية؟

مع تقدم الزمن، دخلت التكنولوجيا إلى الفن المصري، وظهرت الكاميرات الرقمية وتقنيات المؤثرات البصرية الحديثة التي سمحت بخلق مشاهد مذهلة بصريًا. لكن هل جاء هذا على حساب العمق الفني؟

1. الصورة اللامعة بدون معنى

في الدراما الرمضانية الحديثة، أصبحت الصورة تبدو أكثر لامعة ومبهرة. لكنها في بعض الأحيان تفتقر إلى الرمزية العميقة التي كانت حاضرة في أفلام يوسف شاهين. مثلًا، في مسلسلات مثل “جعفر العمدة” و**”سوق الكانتو”، تُستخدم الإضاءة الذهبية والزوايا المبهرة** لتخطف الأنظار، ولكن هل تخدم هذه الصورة الفكرة أم أنها مجرد تزيين بصري؟

2. زحمة الكادرات

في بعض الأعمال المعاصرة، يتم تصوير مشاهد مليئة بالتفاصيل التي لا علاقة لها بالقصة أو الشخصيات، مثل الديكور الفاخر أو الأثاث المُبهر. بينما كان يوسف شاهين يختار كل عنصر داخل الكادر بعناية، يبدو أن بعض الدراما الرمضانية تكتفي بعرض المؤثرات البصرية دون أن تخدم القصة أو تطور الشخصية.

3. الكاميرا كسائحة

في الدراما الحديثة، تميل الكاميرا إلى التحرك بشكل مستمر، من زوايا إلى أخرى، ولكن دون أن تُعبّر عن شيء ملموس. في بعض الأحيان، تشعر أن الكاميرا كأنها مجرد سائحة تتجول بين المشاهد، بدلًا من أن تكون شخصًا يحكي قصة عاطفية.

4. مثال مختلف: “لعبة نيوتن”

من المسلسلات التي أعادت اللغة البصرية هي “لعبة نيوتن” (2021). المخرج تامر محسن استخدم الإضاءة والظل ببراعة، حيث كانت الصورة تأخذ جزءًا كبيرًا من سرد القصة. في مشاهد كثيرة، كانت الكاميرات تقترب من الشخصيات وتظهر الملامح الدقيقة لتُظهر الصراع الداخلي، مما جعل المشاهد يشعر بعمق الأحداث.

لعبة نيوتن (2021) للمخرج تامر محسن استخدم الإضاءة والظل ببراعة

لعبة نيوتن (2021) للمخرج تامر محسن استخدم الإضاءة والظل ببراعة
لعبة نيوتن (2021) للمخرج تامر محسن استخدم الإضاءة والظل ببراعة

مقارنة بين المدرستين

السينما المصرية في عهد يوسف شاهين مقابل الدراما الرمضانية الحديثة: مقارنة معمقة في استخدام الصورة

لطالما كانت السينما المصرية في عهد يوسف شاهين تقدم مواقف سياسية وفكرية عبر الصورة بشكل يتجاوز الكلمات، مُعبرة عن عمق الأحداث وشحنات المشاعر التي تكمن وراء الظواهر الاجتماعية والسياسية. في فيلم “العودة”، يظهر مشهد جنازة جمال عبد الناصر الذي يعد واحدًا من أبرز الأمثلة على استخدام اللغة البصرية للتعبير عن الحالة الوطنية والشعور العام. تم تصوير الجنازة بأسلوب يتسم بالدرامية الشديدة والصدق البصري، حيث كانت الكاميرا تلتقط تفاصيل وجوه الناس في لحظات انكسار وحزن عميق، لتجسد ألم الأمة بأكملها، دون الحاجة إلى الكلمات. الصورة هنا كانت هي الرسالة. هذه هي فلسفة شاهين، حيث كان يتقن استخدام الصورة ليس فقط لتوثيق الأحداث، ولكن لتفسير المعاني العميقة و التأثيرات النفسية على الجمهور، تمامًا كما يمكن للوحة فنية أن تعبر عن ملايين الأفكار.

ولكن إذا نظرنا إلى الدراما الرمضانية المعاصرة، سنلاحظ تحولًا كبيرًا في طريقة التعامل مع الموضوعات السياسية. الدراما الحديثة اليوم، من خلال الحوار المباشر والمباشر، تتجنب الغموض الذي تميزت به أفلام شاهين. السياسة يتم تقديمها الآن عبر كلمات وحوارات صريحة، وفي كثير من الأحيان، لا توجد محاولة لتوصيل الرسالة من خلال الصورة أو الكادر السينمائي. المشهد السياسي قد يكون مجرد حوار يُقال، يختصر التفاصيل البصرية التي كانت تشكل جوهر الرسالة في أعمال شاهين، ما يعني غياب عمق التجربة البصرية التي كان ينجح في خلقها.

الجمال مقابل العمق: تغيّر معايير التعبير

تتميز الدراما الحديثة بالتركيز على الجماليات البصرية، إذ تسعى إلى تقديم صور جذابة و مبهرة، وهي سمة شائعة في الدراما الرمضانية التي تقدم مشاهد صافية وملونة ومُحسنة تقنيًا. يُلاحظ أن المخرجين اليوم قد أصبحوا أكثر اهتمامًا بتقديم جمالية الصور على حساب العمق البصري، حيث تعتمد الأعمال الفنية المعاصرة على إضاءة ناعمة و تصاميم فاخرة تشد عين المشاهد دون أن تغني الرسالة الأصلية.

على الجانب الآخر، كان يوسف شاهين يقدّر الواقعية بشكل أكبر ويؤمن أن الجمال ليس مجرد شيء سطحي، بل هو جزء من تعبير الحقيقة الإنسانية. في العديد من أفلامه، لا يختار دائمًا اللقطات الجمالية أو الصور المثالية. بل كان يسلط الضوء على القبح أحيانًا، ليؤكد على الصراع الداخلي للأشخاص أو لتجسيد واقع مؤلم، مثل مشهد في “العصفور” حيث كانت الظلال تلعب دورًا كبيرًا في التعبير عن الضياع و التيه في ظل النظام السياسي في تلك الفترة. شاهين كان يعي جيدًا أن الواقع البصري لا يجب أن يكون مثاليًا بل يجب أن يعكس الظروف الإنسانية بأقصى درجات الصدق.

زمن اللقطة: تغيّر أسلوب الإيقاع بين الماضي والحاضر

من أبرز الفروق الملحوظة بين سينما يوسف شاهين والدراما الرمضانية الحالية هو زمن اللقطة أو الإيقاع السينمائي. كانت أفلام يوسف شاهين تتميز باللقطات الطويلة والمتأنية التي قد تستمر لعدة دقائق، ما يسمح للمشاهد بالغوص في التفاصيل الصغيرة واستخلاص أبعاد المشهد. على سبيل المثال، كان اللقطات الطويلة في فيلم “الاختيار” أو “العودة” تؤطر اللحظات بشكل عميق، وتمنح للمشاهد وقتًا للتفكير في المشهد.

وفي المقابل، الدراما الرمضانية الحديثة تتسم بإيقاع سريع جدًا، حيث يُحتفظ باللقطة فقط لثوانٍ قليلة لا تتجاوز 3-5 ثوانٍ، مما يخلق تجربة سريعة ويحد من قدرة المشاهد على التفاعل العاطفي مع الصور. هذا النوع من القطع السريع في اللقطات يقضي على التأمل في المشهد ويؤثر على عمق التأثير الذي قد يحدثه المشهد البصري في نفسية المشاهد.

التيمة السياسية: من السرد البصري إلى الحوار المباشر

إذا كنت تفكر في كيفية تعامل يوسف شاهين مع الموضوعات السياسية، فستجد أنه كان يركز على الصورة أكثر من الكلمات. كان الأسلوب البصري هو الأساس في نقل الرسائل السياسية في أفلامه، حيث كانت الصورة نفسها تتحدث عن الأحداث. في فيلم “العودة”، مشهد جنازة جمال عبد الناصر لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل كان رمزية بصرية تظهر الأمة في حالة من الفقد العميق، معتمدًا على حركة الكاميرا وتأثير الإضاءة على الوجه الجماعي للمشاهدين في الجنازة.

أما في الدراما الرمضانية الحديثة، فقد تغيرت هذه الطريقة بشكل جذري. نجد أن السياسة اليوم تُعرض عبر الحوار المباشر. الشخصيات تتحدث عن السياسة بشكل صريح، لكن دون أن تُحرك الصورة شيئًا. فتغيب الرمزية البصرية ويغلب التفسير اللفظي على التفسير البصري، ما يجعل الرسالة أضعف وأكثر سطحية.

دور الصورة في السرد: التوظيف التقليدي مقابل المعاصر

في أفلام يوسف شاهين، كانت الصورة هي الراوي الأول، حيث كانت الكاميرا تروي القصة. كانت اللقطات نفسها تحمل عبء السرد، وكل حركة وكل تغير في الإضاءة كان له معنى عميق. كان شاهين يوجه رسائل سياسية وفكرية عبر الكادر، وهو ما كان يسمح للمشاهد أن يتفاعل عقليًا وعاطفيًا مع الحدث الذي يُعرض.

لكن في الدراما الرمضانية الحديثة، تُصبح الصورة مجرد زينة أو إطار لجعل المشهد يبدو أكثر إغراءً بصرية، بينما يُترك السرد الحقيقي إلى الحوار. الكلمات هي التي تفسر المشهد وتُفصّله، ما يعني أن الصورة لم تعد هي الأساس في السرد كما كانت في السينما الكلاسيكية.

الجمهور المستهدف: تحدي الوعي مقابل الإغراء السطحي

يوسف شاهين كان يخاطب عقل المشاهد، وكان يسعى إلى تحدي وعيه بما يقدمه من أفكار وأسئلة قد تكون صعبة أو مثيرة للجدل. كان شاهين يطلب من الجمهور أن يتفاعل مع الفيلم ليس فقط على مستوى المتعة البصرية، بل أيضًا على مستوى التفكير العميق حول المواضيع التي يعرضها.

أما الدراما الرمضانية الحديثة، فهي غالبًا ما تخاطب العين أولاً، بينما المشاعر السريعة هي هدفها. الجمهور اليوم يُستهدف عاطفيًا بالصور الجذابة والمشاهد التي تحفز الشعور السريع ولكن لا تترك أي مساحة للتفاعل الفكري أو التأمل. الدراما الرمضانية تركز على الترفيه السريع وتلبية احتياجات المشاهد الفورية من دون التعمق في الرسائل الاجتماعية والسياسية.


🧭 الجزء الرابع: رأي تحليلي ختامي

لا شك أن اللغة البصرية في الفن المصري مرت بتحول خطير. من زمن كانت فيه الصورة تقول ما لا يستطيع السيناريو قوله، إلى زمن أصبحت فيه الصورة أداة تزيين لا أكثر قد شهدت تحولًا ملحوظًا. من الصور الرمزية التي كانت تحكي قصصًا معقدة في أفلام يوسف شاهين، إلى الصور التزيينية في الدراما الرمضانية الحديثة. لكن هل فقدت اللغة البصرية عمقها؟ أم أن التطور التكنولوجي قد فتح أمامنا أبوابًا جديدة للفن؟

قد يكون الجواب هو: إن الصورة في الفن المصري اليوم بحاجة إلى أن تستعيد روحها مرة أخرى. نحن بحاجة إلى مخرجين يمكنهم استخدام التكنولوجيا الحديثة لإعادة تعريف اللغة البصرية، بحيث لا تكون مجرد زخرفة بصرية، بل تعبيرًا عميقًا عن الواقع والمشاعر. ولا شك أن تطور الأدوات التقنية أضاف إمكانيات هائلة لصناعة الصورة، لكن فقدان العمق جعل منها قشرة لامعة فقط.

المعادلة التي نجح فيها يوسف شاهين كانت صعبة: صورة تعبر، تحفز العقل، وتبقى في الذاكرة. نحتاج اليوم لـمخرجين يعيدون لـالصورة المصرية هيبتها، يعاملون الكاميرا كضمير لا كأداة عرض، ويعيدون للجمهور احترامه كمتلقٍ ذكي، لا كمستهلك. هل يمكن أن نعيد تلك اللغة؟ نعم، لكن فقط إذا آمنا أن الصورة قادرة على أن تفكر، لا فقط أن تلمع.


 

المصادر:

  1. يوسف شاهين، مخرج سينمائي مصري يعتبر من أهم الشخصيات في تاريخ السينما المصرية. شاهين هو من روّاد استخدام اللغة البصرية في أفلامه، مثل “باب الحديد” و**”العصفور”**. كتب العديد من المقالات التي تناولت التوظيف البصري في السينما مثل مقاله في “المسرح والسينما”.

  2. إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، قد تناول بعض الجوانب المتعلقة بالصور الثقافية في الشرق وكيف كانت تُترجم بصريًا عبر الأدوات الفنية في السينما المصرية.

  3. فيلم “إسكندرية ليه؟” من إخراج يوسف شاهين، يتحدث عن التأثير الكبير للتكوين البصري على السرد في السينما. يقدم الفيلم صراع الهوية بين الشرق والغرب بأسلوب بصري يعكس المعضلات الثقافية.

  4. تامر محسن، مخرج مسلسل “لعبة نيوتن” (2021)، يعد من بين المخرجين الذين يستخدمون الإضاءة والظل بشكل مبتكر في سرد القصص المعاصرة. هذه الأعمال تعد أمثلة قوية على اللغة البصرية في الدراما الحديثة.

  5. الدراما الرمضانية: الأبحاث التي تناولت تأثير الدراما الرمضانية في المجتمع المصري مثل دراسة “الدراما الرمضانية: تحولات في أسلوب السرد” للكاتب صلاح عبد الله. هذه الدراسات تقدم رؤى حول تطور أسلوب الإضاءة، الكاميرا، والألوان في المسلسلات الرمضانية الحديثة.

  6. مؤسسة السينما المصرية: كتب العديد من الخبراء في السينما المصرية حول التحولات التكنولوجية في تصوير الأفلام بدءًا من التقنيات التقليدية إلى التقنيات الرقمية الحديثة، مثل كتب “تطور السينما المصرية: بين التقليدي والتقني” الذي يناقش كيف أثر استخدام الكاميرات الرقمية والتأثيرات البصرية الحديثة على السرد البصري في الفن المصري.


هل أعجبك؟ شاركه مع أصدقائك!

0 Comments

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ما هو رد فعلك؟

مشوش مشوش
0
مشوش
فشل فشل
0
فشل
مرح مرح
0
مرح
غريب الأطوار غريب الأطوار
0
غريب الأطوار
يكره يكره
0
يكره
مضحك مضحك
0
مضحك
حب حب
0
حب
يا إلهي يا إلهي
0
يا إلهي
يفوز يفوز
0
يفوز