في سياق عملنا الصحفي اليومي، استضفنا أحد الصحفيين اللبنانيين لمناقشة أحدث الإنتاجات الدرامية الرمضانية، وعند سؤاله عن مسلسل “بالدم”، الذي يعد من أبرز الأعمال اللبنانية المعروضة هذا الموسم، كانت إجابته مفاجئة للغاية
: “لا أتابع الدراما اللبنانية”.
هذه الكلمات، رغم بساطتها، أثارت تساؤلات عدة حول مدى انتشار وتأثير الدراما المحلية بين أبناء الوطن نفسه.
جدل غير متوقع حول الدراما اللبنانية
مسلسل “بالدم”، الذي يجمع بين أداء قوي لمجموعة من ألمع النجوم اللبنانيين مثل ماغي بو غصن، وباسم مغنية، وبديع أبو شقرا، ووسام فارس، لم يكن مجرد دراما تقليدية، بل كان تجربة بصرية فريدة بفضل اختيار موقع التصوير في البترون، إحدى أقدم وأجمل المدن اللبنانية.
هذا المقال يتناول بعمق الجوانب المتعددة لهذا العمل، بدءًا من قيمته الفنية وصولًا إلى أهمية البترون كموقع تصوير استثنائي، فضلًا عن الجدل الذي أثير حوله.
الدراما اللبنانية: تطور مستمر أم أزمة هوية؟
شهدت الدراما اللبنانية تطورًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين، حيث بدأت تأخذ طابعًا خاصًا يميزها عن الدراما المصرية أو السورية. في حديث مع موقع “النهار”، صرحت ماغي بو غصن، بطلة “بالدم”
: “نسعى لتقديم أعمال تليق بالجمهور اللبناني والعربي، نبحث دائمًا عن قصص قريبة من الواقع بلمسات درامية متقنة”
رغم ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه الصناعة الدرامية اللبنانية، أبرزها ضعف السوق المحلي، وتأثير الإنتاجات الأجنبية، بالإضافة إلى التحديات الإنتاجية التي يفرضها الواقع الاقتصادي في لبنان.
مسلسل “بالدم”: قصة مثيرة للجدل
الحبكة الدرامية والتشابه مع “بدون سابق إنذار”
منذ عرض الحلقات الأولى لمسلسل “بالدم”، أثيرت العديد من التساؤلات حول تشابه قصته مع المسلسل المصري “بدون سابق إنذار” الذي عرض في رمضان 2024، حيث تدور أحداث العملين حول امرأة تكتشف، في منتصف حياتها، أنها ليست الابنة البيولوجية لعائلتها.
حيث وجهت اتهامات إلى كاتبة مسلسل “بالدم” بأنها استوحت بشكل شبه حرفي أحداث المسلسل “بدون سابق إنذار” المصري دون الإشارة إلى ذلك مسبقًا. كما تم الربط بين فكرة المسلسل اللبناني وحدث تلفزيوني كان قد تم عرضه قبل ثلاث سنوات، حيث استضاف الإعلامي نيشان سيدة لبنانية في الأربعين من عمرها لتروي تجربتها المؤلمة، التي اكتشفت خلالها، بسبب مرضها، أنها ليست بيولوجيًا من العائلة التي اعتقدت أنها كانت جزءًا منها طوال حياتها.
وفي مقابلة مع قناة MTV اللبنانية، ردت ماغي بو غصن على هذا الجدل بقولها: “التشابه في الخطوط العريضة لا يعني النسخ، هناك تفاصيل مختلفة كليًا في السرد، والشخصيات، وأسلوب الإخراج”.
البترون: موقع تصوير يتحول إلى بطل خفي
مدينة من التاريخ والجمال الطبيعي
البترون ليست مجرد مدينة لبنانية ساحلية، بل هي واحدة من أقدم المدن في الشرق الأوسط، حيث تعود أصولها إلى الفينيقيين. هذه المدينة التي ظهرت في مشاهد “بالدم” وكأنها شخصية قائمة بذاتها، جذبت الأنظار بجمالها الطبيعي وأماكنها التاريخية.
تضم البترون العديد من المواقع الأثرية مثل:
- السور الفينيقي: الذي يبلغ طوله 225 مترًا وارتفاعه 5 أمتار.
- السوق القديم: الذي يعود إلى القرن التاسع عشر.
- قلعة المسيلحة: التي شيدها الصليبيون.
- كاتدرائية مار اسطفان: واحدة من أكبر الكنائس في لبنان.
- شاطئ البحصة: الذي يعد من أجمل الشواطئ اللبنانية.
في حديث لموقع “L’Orient-Le Jour”، صرّح المخرج فيليب أسمر عن اختياره للبترون كموقع تصوير: “هذه المدينة تحمل طابعًا خاصًا، فهي تجمع بين سحر البحر وعراقة التاريخ، مما يمنح المشاهد تجربة بصرية فريدة”.
البترون وعدسة الدراما اللبنانية:
كيف أضاء “بالدم” درة الشمال اللبناني؟
مدينة البترون، الواقعة في شمال لبنان، ليست مجرد موقع تصوير لمسلسل “بالدم”، بل هي شخصية قائمة بذاتها تساهم في إثراء السرد الدرامي. تُعد البترون واحدة من أقدم المدن اللبنانية، وتتميز بمزيج فريد من التاريخ العريق والجمال الطبيعي، مما يجعلها موقعًا مثاليًا لتصوير الأعمال الفنية.
البترون: جوهرة فينيقية تتحدث عبر الزمن
البترون ليست مجرد مدينة عادية في شمال لبنان، بل هي قطعة من التاريخ الفينيقي الذي ما زال نابضًا بالحياة. تأسست المدينة على أيدي الفينيقيين وكانت مركزًا حضاريًا هامًا على الساحل المتوسطي. عُرفت بأسماء متعددة مثل “بترونا” و”بيترونيون”، وذكرها مؤرخون كثر كإحدى أهم المدن القديمة.
ما يجعل البترون استثنائية ليس فقط تاريخها العريق، ولكن أيضًا طبيعتها الخلابة، حيث تُحاط بشواطئ ذهبية وتلال خضراء تحتضن الأزقة الضيقة والمباني الحجرية القديمة. هذا التنوع جعلها واحدة من أهم الوجهات السياحية في لبنان، سواء لعشاق التاريخ أو محبي الاستجمام.
أبرز المعالم الأثرية والسياحية في البترون
- السور الفينيقي: أحد أقدم المعالم الباقية من الحضارة الفينيقية، ويمثل شاهدًا حيًا على عبقرية الهندسة المعمارية القديمة.
- قلعة المسيلحة: صرح أثري يعود للعصور الوسطى، يقع على تل صخري ويعكس البراعة العسكرية للصليبيين.
- السوق القديم: يمتد بتاريخه إلى القرن التاسع عشر، وهو متاهة من الأزقة المرصوفة بالحجارة والمحال التي تعكس التراث اللبناني.
- كنيسة مار اسطفان: واحدة من أكبر الكنائس المارونية في لبنان، وتمثل تحفة معمارية بدمجها بين الطرازين البيزنطي والروماني.
- شاطئ البحصة: مقصد سياحي فريد يتميز بجماله الطبيعي وصفاء مياهه، مما يجعله وجهة مثالية لمحبي السباحة.
- مقعد المير: صخرة منحوتة بشكل فريد، يقال إن أمراء لبنان القدماء كانوا يجلسون عليها لمشاهدة البحر.
- شارع البترون الرئيسي: يضم مجموعة من المقاهي والمطاعم المشهورة بعصير الليمون الطازج، وهو مشروب أصبح رمزًا ثقافيًا في المدينة.
“بالدم”: دراما تُعيد تعريف الهوية الفنية للبنان
تدور أحداث مسلسل “بالدم” في أجواء درامية مكثفة، حيث يتناول قصصًا تتشابك فيها العائلة، الحب، والخيانة. اختيار البترون كموقع للتصوير أضاف للعمل بعدًا جماليًا، ليصبح المكان عنصرًا دراميًا بحد ذاته، وليس مجرد خلفية للأحداث.
أبطال العمل وقيمتهم الفنية
ماغي بو غصن: رحلة البحث عن الهوية في مسلسل بالدم
في مسلسل “بالدم”، تقدم النجمة ماغي بو غصن أداءً استثنائيًا ومؤثرًا في شخصية غالية سعد، المحامية الناجحة التي تعيش حياة مستقرة وهادئة، لكن سرًا عائليًا عميقًا سيقلب حياتها رأسًا على عقب. تبدأ أحداث المسلسل بتسليط الضوء على غالية، التي تفاجأ بعد مرور 45 عامًا بأنها ليست الابنة البيولوجية لعائلتها. هذا الاكتشاف الصادم يفتح أمامها أبوابًا من الأسئلة والتحديات التي تهدد استقرار حياتها الشخصية والمهنية.
يبدأ الصراع الداخلي لغالية مع نفسها
بعد أن تكتشف أن الهوية التي عاشت بها طوال حياتها لم تكن حقيقية، وأنها كانت تعيش في إطار أسرة لا تنتمي إليها بيولوجيًا. مع مرور الوقت، تدفعها هذه الحقيقة المذهلة للبحث عن جذورها الحقيقية والبحث عن إجابات للأسئلة التي تلاحقها منذ الطفولة. تتصاعد الأحداث بسرعة، حيث تجد غالية نفسها في مواجهة مع أعمق أسرار ماضيها، وتحاول كشف كل ما يتعلق بميلادها، مما يجعلها تتعامل مع قضية معقدة ومشحونة بالعواطف.
المسلسل، الذي كتبت أحداثه بحرفية عالية، يعكس الصراع الداخلي للمحامية غالية، التي تجد نفسها في رحلة صعبة لاستعادة هويتها الحقيقية، ورسم خطوط جديدة في علاقتها بعائلتها. وتدور الحكاية حول اكتشاف هويتها المفقودة والتحديات التي تواجهها أثناء محاولتها استرجاع الماضي المفقود، بينما تكتشف خيوطًا معقدة تؤثر في حاضرها ومستقبلها.
ماغي بو غصن، بتجسيدها الرائع والدقيق للشخصية، استطاعت أن تجعل غالية سعد واحدة من أكثر الشخصيات تعقيدًا وإثارة في الدراما العربية، مما جذب انتباه الجمهور والنقاد على حد سواء. بفضل قدرتها الفائقة على التعبير عن الصراع الداخلي لشخصيتها، نقلت لنا مشاعر التوتر والبحث المستمر عن الحقيقة، وهو ما جعل المسلسل يحظى بشعبية واسعة في رمضان 2024.
باسم مغنية: ممثل متعدد المواهب
شارك في العديد من الأعمال الدرامية الناجحة. في “بالدم”، يجسد شخصية “وليد”، التي تتميز بالتناقضات والتعقيد. في مقابلة مع موقع “الأنباء الكويتية”، أعرب باسم عن سعادته بالمشاركة في المسلسل، مشيرًا إلى أن “وليد” من الشخصيات المتناقضة التي يفضل تجسيدها، حيث تمنحه الفرصة لاستكشاف أبعاد نفسية متعددة.
بديع أبو شقرا: يُعرف بأدواره المميزة في الدراما اللبنانية. في “بالدم”، يلعب دور “طارق”، المحامي وزوج “غالية”. في مقابلة مع برنامج “Spot On”، دافع بديع عن الدراما اللبنانية وتحدث عن تعاونه مع ماغي بو غصن، مؤكدًا على أهمية تقديم أعمال تعكس الواقع اللبناني.
جيسي عبدو استطاعت أن تثبت نفسها بقوة في مجال التمثيل
جيسي عبدو، ممثلة لبنانية شابة، استطاعت أن تثبت نفسها بقوة في مجال التمثيل، محققة مكانة مرموقة بين نجمات الصف الأول. في مسلسل “بالدم”، قدمت أداءً مميزًا جذب انتباه الجمهور والنقاد على حد سواء.
خلال تصوير أحد المشاهد، تلقت جيسي صفعة من الممثل رفيق علي أحمد، مما أثر فيها عاطفيًا.
في كواليس التصوير، ظهرت متأثرة وباكية، بينما حاولت زميلتها ماغي بو غصن تهدئتها. هذا المشهد أظهر التزام جيسي العميق بدورها واستعدادها لتقديم أداء واقعي ومؤثر.
جيسي عبدو التي تقدم دور “تمارا”، الشخصية التي تضيف تعقيدًا إلى العلاقات المتشابكة في المسلسل. في مقابلة حصرية مع منصة “شاهد”، تحدثت جيسي عن تجربتها في المسلسل والتحديات التي واجهتها في تجسيد دورها.
التشابه مع أعمال أخرى: جدل وسجال
عند عرض “بالدم”، ظهرت اتهامات حول تشابه حبكته مع المسلسل المصري “بدون سابق إنذار”، بل وحتى مع قصة حقيقية روتها سيدة لبنانية في برنامج نيشان قبل ثلاث سنوات. هذا الجدل أثار نقاشًا حول الحدود بين الإلهام والاقتباس، ومدى تأثير هذه العوامل على أصالة الإنتاج الدرامي.
تأثير مسلسل بالدم على السياحة في البترون
اختيار البترون كموقع رئيسي لتصوير “بالدم” لم يكن مجرد صدفة، بل كان قرارًا استراتيجيًا أبرز جمال المدينة وسحرها. بعد عرض المسلسل، شهدت البترون زيادة ملحوظة في عدد الزوار الذين توافدوا لاكتشاف المواقع التي ظهرت في الحلقات.
المشاهد التي عُرضت في المسلسل، والتي أظهرت الأزقة الضيقة، المنازل الحجرية، والميناء القديم، أسرت قلوب المشاهدين ودعتهم لزيارة هذه المدينة التاريخية. وفقًا لتقرير نشرته “الشرق الأوسط”، أصبحت مواقع التصوير مزارات سياحية يقصدها المعجبون لتتبع خطى شخصياتهم المفضلة
فريق العمل: أسماء صنعت الفارق
مسلسل “بالدم” يضم نخبة من ألمع نجوم الدراما اللبنانية، لكل منهم بصمة واضحة في المجال:
- ماغي بو غصن: نجمة لبنانية متألقة، بدأت مشوارها في المسرح ثم انتقلت إلى الدراما، وحققت نجاحات كبيرة في أعمال مثل “بروفا” و”للموت”.
- باسم مغنية: ممثل متمرس، قدم العديد من الأدوار المتميزة في الدراما اللبنانية والمشتركة.
- بديع أبو شقرا: فنان صاحب تجربة طويلة، اشتهر بأداء الشخصيات المركبة والمعقدة.
- جيسي عبدو: ممثلة لبنانية صاعدة، استطاعت أن تحجز مكانها بين نجمات الصف الأول.
- كارول عبود: أيقونة في الأداء الدرامي، قدمت العديد من الأعمال المتميزة.
إنتاج العمل: رؤية جمال سنان
مسلسل “بالدم” من إنتاج “إيغل فيلمز” لصاحبها جمال سنان، الذي يعد من أبرز المنتجين في الساحة العربية. في حديث مع “العربية نت”، أوضح سنان رؤيته قائلًا: “نحن نبحث عن أعمال تحمل قيمة فنية عالية، ونحرص على تقديم الإنتاجات اللبنانية بمستوى ينافس عالميًا”.
ردود الفعل: نجاح أم إخفاق؟
لاقى مسلسل “بالدم” تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انقسم الجمهور بين مؤيد ومعارض:
- بعض المشاهدين أشادوا بجودة التصوير، وأداء الممثلين، والإخراج المتقن.
- آخرون انتقدوا الحبكة، معتبرين أنها تفتقر إلى الأصالة.
في لقاء مع موقع “ET بالعربي”، علّق باسم مغنية على هذه الآراء قائلًا: “الجمهور دائمًا حر في آرائه، ونحن نحترم جميع وجهات النظر، لكن في النهاية نراهن على جودة العمل”.
بين الدراما والسياحة – ارتباط لا ينتهي
ما بين الجدل حول حبكة المسلسل، وأداء الممثلين، واختيار موقع التصوير في البترون، يظل “بالدم” تجربة درامية مهمة تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول تطور الدراما اللبنانية ومستقبلها.
كيف تعزز الدراما السياحة؟ “بالدم” نموذجًا
لطالما كان للأعمال الفنية دور في الترويج للأماكن التي تُصوَّر فيها، والمسلسلات اللبنانية ليست استثناءً. في حالة “بالدم”، ساهم المسلسل في إبراز البترون كوجهة سياحية جذابة، حيث أظهرت المشاهد جمالية المواقع الطبيعية والتاريخية في المدينة.
البترون، التي لعبت دورًا رئيسيًا في نجاح المسلسل، تستحق المزيد من الاهتمام كمقصد سياحي وثقافي. ربما يكون “بالدم” مجرد بداية لمرحلة جديدة تشهد فيها الدراما اللبنانية تفاعلًا أوسع مع إرثها الحضاري، واستغلال مواقعها التاريخية لتعزيز الإنتاج الفني.
المصادر:
- لقاء ماغي بو غصن مع “MTV Lebanon”.
- تصريح فيليب أسمر لموقع “L’Orient-Le Jour”.
- حديث باسم مغنية مع “ET بالعربي”.
- مقابلة جمال سنان مع “العربية نت”.
0 Comments