الشباب في عالمٍ حيث الكلمات لم تعد كافية للتعبير عن الهموم والمشاعر العميقة، بدأ الجيل الجديد في البحث عن لغة جديدة. لغة لا ترتبط فقط بالكلمات، بل تتجسد في الألوان، والحركات، والصوت. فالشباب اليوم لم يعودوا يلتفتون إلى المنابر الإعلامية التقليدية التي تعكس، غالبًا، هموم الأجيال القديمة. لقد ذهبوا إلى مكان آخر، إلى الفن، حيث يصنعون وطنًا بديلاً يعبر عنهم بصدق.
من رسومات الغرافيتي التي تزين جدران الأحياء، إلى أغاني الراب التي تنفجر من هواتفهم المحمولة، ومن الأفلام القصيرة التي تُعرض على تيك توك ويوتيوب، إلى عروض الرقص المعاصر التي تُقدّم في الساحات العامة… كل هذه الفنون لم تعد مجرد هوايات أو أنشطة ترفيهية، بل رسائل مشحونة بالصدق والوجع والأمل. هي أصوات تصدح في وجه كل القيود.
1. كيف يختار الشباب نوع الفن الذي يعبر عنه؟
لكل فرد طريقتها في الصراخ، وهناك من يختار أن يصرخ بالألوان، أو بالصوت، أو بالحركة.
اختيار نوع الفن الذي يعبر عنهم ليس مجرد صدفة، بل هو مرآة لمشاعرهم وهوياتهم. فالميل إلى الرسم قد يعكس الصمت الداخلي أو الهدوء العميق، بينما اختيار الرقص قد يكون محاولة لكسر القيود الجسدية أو المجتمعية.
في استطلاع رأي أُجري على عينة من الشباب العربي، صرّح 74% منهم بأنهم اختاروا نوع الفن الأقرب إلى “جرحهم الشخصي”، بينما قال 63% إنهم اختاروا الفن الذي يتيح لهم التعبير عن أنفسهم بحرية دون رقابة أو محاسبة (كما ورد في دراسة “توجهات الشباب العربي تجاه الفنون” لعام 2023).
مريم، طالبة جامعية من بيروت، تقول: “بدأت أرسم وجوهًا حزينة بعد الانفجار، لأن وجهي ما كان يقدر يعبر. الرسم كان صوتي الوحيد.” تعكس كلمات مريم حقيقة معاناتها الشخصية التي تغذي إبداعها الفني، وهكذا يصبح الفن بالنسبة لها وسيلة للتعبير عن مشاعر مستعصية على الكلمات.
2. الفنون البديلة مقابل الفنون التقليدية: صراع أجيال؟
جيل الآباء قد يتساءل:
“ما هذا الصخب الذي تسمونه فنًا؟ ما هذا الرقص الغريب، أو هذه الأغاني المليئة بالغضب؟”
بينما يظل الجيل الجديد بعيدًا عن البحث عن التصفيق، يبحث عن الأثر. في زمن تسوده السرعة والسرعة، لم تعد الأوبرا أو اللوحات الزيتية الكلاسيكية هي الوسيلة الوحيدة للتعبير.
فن الراب، الغرافيتي، الفيديو آرت، وحتى الميمز الساخرة، أصبحت الآن أدوات فنية متكاملة. البعض من النقاد يرى في هذه الفنون البديلة تمردًا على “ثقافة النخبة”، بينما يرى الشباب فيها محاولة صادقة لتقديم الحقيقة، بلا تجميل أو تزييف.
3. هل الفنون الجديدة سطحية أم صادقة؟
سؤال يطرحه العديد من المتابعين للفن الشاب، الذين يعتقدون أن هذه الفنون تفتقر إلى العمق وتبدو سريعة وعابرة. لكن الحقيقة أن الفنون الشبابية تعكس اللحظة الراهنة بكل قوتها، مشاعرها المتقلبة والمتسارعة. ليست الأعمال الفنية السريعة ضحلة بالضرورة، بل هي ترجمة حية لما يعيشه هذا الجيل من لحظات متقلبة وواقعية.
هل رسمة غرافيتي على حائط مهدم، أو فيديو مدته 60 ثانية على تيك توك، أقل صدقًا من سيمفونية كلاسيكية؟ ليس بالضرورة. المهم هو الفكرة وراء العمل الفني، والأثر الذي يتركه في المتلقي. قد تتحول بعض الأعمال التي اعتُبرت تافهة في لحظة صدورها إلى رموز ثقافية خالدة.
4. تأثير مواقع التواصل في إبراز المواهب
لا يمكن الحديث عن فنون الشباب اليوم دون التطرق إلى دور منصات مثل إنستغرام، تيك توك، يوتيوب، وسبوتيفاي في إبراز مواهب الشباب. هذه المنصات قدّمت للشباب منبرًا جديدًا غير خاضع للمحسوبيات، بل هو متاح لكل من يمتلك موهبة أو فكرة.
شاب من القاهرة أصبح نجمًا في الرسم الرقمي بفضل فيديوهات قصيرة على إنستغرام، وفتاة من الجزائر ترجمت مشاعرها إلى رقصة تم عرضها في مهرجان دولي. منصات مثل SoundCloud جعلت من أصوات المراهقين موسيقى تُذاع في النوادي والحفلات الكبرى.
لكن، في المقابل، يرى البعض أن هذه المنصات قد تروج لأشخاص لا يمتلكون الموهبة الحقيقية، وأن الشهرة لم تعد مرادفًا للموهبة. لكن يبقى السؤال: هل نحن أمام “ديمقراطية الفن” أم فوضى في البحث عن الشهرة؟
5. شهادات حية من شباب عرب
“كنت أغني في الحمام، وفي الوقت الحالي لدي جمهور على تيك توك يصل لمليون مشاهد. الفن أنقذني من الاكتئاب.” – يزن، 19 سنة، الأردن.
“كنت أكتب شعرًا غامضًا، وكنت أظن أنني فاشل. فجأة بدأت صفحة كبيرة تنشر لي، ووجدت تعليقات من أشخاص يبكون على الكلمات. الفن يكشفك لنفسك.” – جود، 22 سنة، لبنان.
“كانوا يقولون لي إن الرقص ليس للبنات المحترمات، لكنني رقصت، وقدمت عرضًا في فرنسا. عندها فقط شعرت أنني موجودة.” – سارة، 24 سنة، المغرب.
6. الفن: هل هو وسيلة لتغيير الواقع أم مجرد هروب منه؟
في كل مرة يطلق فيها شاب أغنية عن الغربة أو ترسم فتاة لوحة عن العنف الأسري، يعود السؤال: هل هذا الفن قادر على تغيير الواقع، أم هو مجرد تنفيس؟
البعض يرى أن الفن يُلهي ويخدر الناس، لكن الحقيقة عكس ذلك. العديد من الحركات الحقوقية بدأت من فن الشارع، وعدد من القوانين تم تغييرها بعد أن عرضت أفلام وثائقية صادقة أو أغاني مؤثرة.
الفن ليس دائمًا مجرد هروب، بل هو أداة قوية للتغيير، تجعلنا نعيد التفكير في أحكامنا وأوضاعنا الاجتماعية.
الفن كهوية ووسيلة بقاء
الفن بالنسبة لهذا الجيل ليس رفاهية، بل هو ضرورة وجودية. هو وسيلته للقول:
“أنا هنا، أتنفس، أشعر، وأرفض أن أكون مجرد رقم في هذا العالم الصاخب”.
الشباب لا ينتظرون موافقة أحد، ولا شهادة من الماضي. إنهم يصنعون حاضرهم ويكتبون تاريخهم بأدواتهم الخاصة.
والسؤال لم يعد: “هل هذا فن؟” بل: “هل استمعت جيدًا لما يحاول هذا الجيل أن يقوله؟“
المصادر:
-
دراسة “توجهات الشباب العربي تجاه الفنون” لعام 2023.
-
مقابلات مع فنانين وشباب من مختلف الدول العربية.
-
مقاطع من مقابلات شخصية مع الشباب حول تأثير الفن في حياتهم.
0 Comments